التنمية الذاتية ويوتوبيا التشغيل الذاتي

1٬489

بقلم: محمد هلال الحسنی

يدعو كثير من “الكوتشات” مدربوا التنمية البشرية الى المغامرة والمراهنة على التجارب الاستثنائية التي صنعت العديدمن مشاهير المال والاعمال انطلاقا من افكار صغيرة لقيت التعهد اللازم والاستحسان من قبل الناس. معتبرين أن السبيل الوحيد للنجاح هو التحلي بالمغامرة والذكاء والاعتماد على النفس وعلى المجهود الذاتي فحسب.

لكن السؤال الذي يطرح ذاته هو: هل بوسع اي كان امتلاك هذه الفرصة لتحقيق النجااح!!! فحتى دولل الغرب المتقدم قدمت لنا نماذج منتقاة لتجارب ناجحة من هذا القبيل, في شكل بيل غاتس واصحاب الذكاء ااصطناعي وخالقي الثروة اللامادية كفايسبوك وواتساب و….ولم تفلح في تقديم نماذج للتنمية الجماعية في اطار العمل بصيغته الرأسمالية أبدا.

من هذا المنطلق ينتابني شك كبير إزاء هذا الخطاب الذي يحمل شعار التشغيل الذاتي بينما يناويء ضمنيا الاساليب النظامية للعمل, اذ يتماشى مع منطق المناولة ومع اشكال التملص من اعباء التشغيل التي تقع على عاتق الدولة الاجتماعية وكل ما تناسل من رحمها من مؤسسات اقتصادية بفعل الخوصصة وبيع رخص الاستثمار….
فكيف بوسعنا تبيئة هذا الخطاب عندنا اذن!!!!

في ” contre feux” يؤكد بورديو ان النظام الراسمالي الجديد عات بطبيعته, فهو لا انساني إذ يقارب الحاجات الانسانية بمنظور تقني, و متوحش إذ يجمع بين السلطة والقوة, وايضا تمييزي إذ يشتغل لفائدة المهيمنين بداروينية اجتماعية تكرس تفوق الاذكياء وذوي الكفاءة فقط.

يفيدنا منطوق هذا النقد في فهم السياق الذي انتشر فيه خطاب التنمية البشرية هذا بأبعاده الذاتوية والتذويتية. فلا شيء من المسؤولية يمكن تحميله للدولة او للسياسيين او الاقتصاديين…لاشيء تقريبا طالما ان افعالهم ترمي خير الأمة أوهي الى الطهرانية اقرب. ووحده الفرد يتحمل وفق هذا الخطاب المسؤولية على فشله في التأقلم مع محيطه وعلى عجزه عن استخراج افضل ما في جعبته من قدرات ذكائية لتحصيل المكانة الاجتماعية اللائقة. فكل شيء يتوقف على الذكاء فحسب, ذلك الرأسمال الخفي الذي يتوي فينا ونحتاج لحيل مدربي التنمية البشرية لاكتشافه.

من الاهداف الى الكفايات الى الذكاء:

لقد فشلت المقاربة بالاهداف وكذا بالكفايات, وبتنا اليوم امام الذكاء. فما معنى ذلك؟

ان ذلك معناه أن اليد الخفية للرأسمال تطلب الوصول الى أفضل مافي الانسان الذي يحتكر لوحده طاقة الابداع من بين باقي الموجودات الاخرى في العالم. وبلوغ ذلك تم اولا بالاهداف ثم بالكفايات اللتان تستندان في الجوهر الى وضعيات خارجية تستثير الفرد وتجعله يكتسب عبر التفاعل مع المثيرات مكتسبات جديدة ومتسارعة تقوي قدراته الذاتية و الابداعية.

غير ان المرامي التربوية والعمومية لهذا الاتجاه بتكلفتها المادية والرمزية ( بناء وتجهيز المؤسسات, تكوين المدرسين وتوظيفهم وترسيمهم…) لا تتوافق مع المنطق التقشفي للراسمالية بروحها التدبيرية الجديدة كما يؤكد ذلك لوك بولتانسكي في مؤلفه(le nouvel esprit du capitalisme). لذا فأقصر طريق لمراكمة الرأسمال هو البحث عن الأذكياء, واصطناع الذكاء, وتعميم ايديولوجية التشغيل الذاتي التي قد تجعل من ” شخص ناجح في بيع الحرشة لزبنائه بتمويله الخاص” نموذجا ناجحا. ومصدر نجاحه اعتماده على نفسه وانطلاقه من فكرة صغيرة قابلة للتوسيع.

من الفكرة الى البضاعة الى “الترمة”:

نعم فمنطق التشغيل الذاتي والبحث عن المقومات الذاتية من اجل ابرازها وتسويقها وتحصيل اكبر نسبة من المقبلين عليها سواء باقتنائها او بمشاهدتها…منطق خطير طالما أنه يجعل النجاح مرتبطا بالتسويق الواسع النطاق, وطالما انه يجعل جني المال العنوان الوحيد للنجاح.

واذا كان منشأ الفكرة هو طبيعة النظام الراسمالي نفسه الذي يخول اغتنام الازمات واصطياد الهفوات لبناء الافكار الثاقبة والقابلة للنجاح حتى قبل بنائها وتسويقها, فإن التشغيل الذاتي بهذا المعنى نظير الاذكياء فقط. لكن ما العمل مع طوابير غير الاذكياء اذن!!!!

ان هؤلاء المحسوبين غير أذكياء هم المعنيين اكثر بامتلاك الذكاء. وملخص ذكائهم جني المال. فقد سقطت كل اشكال الرقابة الاخلاقية والقانونية ليظل الباب مترعا أمام نماذج شتى من المفاخرين بقدرتهم على جني الارباح الطائلة من بيوتهم ودونما حاجة للتنقل طالما انهم قادرون على توظيف تقنيات الحداثة لتحقيق ذلك دون تكلفة اكبر.

لقد غدا كل شيء بضاعة, بما في ذلك الجسد ومظاهره من قدرات عضلية او مفاتن مغرية….فتساوت السلعة مع “الترمة”, واشتغل الجميع بفضل يوتوب وغوغل وفايسبوك وواتساب…الخ.

الانسان بين التحقق كبضاعة او الوجود كماهية:

لن نكون مغرضين اذا ما وضعنا الانسان بين ذانك الخيارين. فهو ليس شيئا وماهيته لا تتحقق بالامتلاك كما لا تكتمل ابدا بالعرض. انها خارجهما ككينونة كدازاين وكانبثاق من رحم الوجود كتمازج واختلاف. فكلما ارتمى الفرد في عالم الشيئية المفرطة التي تجتاحنا اليوم, كلما ابتعد اكثر عن حقيقته الانسانية كموجود اجتماعي يحيا بوعي تاريخي وبحس انساني واخلاقي نبيل.

لقد اختار الانسان المعاصر طريقا ثالثا بين الاخلاق والعقل, فتنصل من كل مثبطات التحرر التي تشده دوما الى ذاته, وتموقع في اطار مغلق للرغبة كبارديكم مرعب. فالرغبة تتحقق دوما بشيء ما هو دوما شيء خارجي من مشتقاته كل ما يجلب لذة. واساس تحصيل الملذات جميعها اليوم هو المال الذي بات موضوع رغبة الجميع.

وحده الانسان المثقف يخرجنا من عنق الزجاجة. فلا بقاء ممكن للنوع الانساني في عالم بلا ثقافة, بلا قيم وبلا اخلاق… والاتجاه نحو نظام انساني بديل لعلاقات متكافئة مع الطبيعة والانسان يمنحنا فرصة انسب لانقاذ ماهيتنا الحقيقية.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد