بدر الزاهر الأزرق.. عمال المنصات الرقمية بين غياب النص القانوني وغموض الوضع المهني

11٬926

شهد العالم خلال العقدين الماضيين تحولات عميقة لأنماط العمل ارتبطت بالتحولات المجتمعية وتطور أنماط الاستهلاك وظهور نماذج اقتصادية جديدة إلى جانب القفزة التكنولوجية الهائلة التي سرعت وتيرة الانتقال والتحول، الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية المنصات الرقمية منصات التواصل الاجتماعي كلها أدوات رقمية أسهمت في صياغة نماذج اقتصادية جديدة كان لها دور كبير في خفض تكلفة الإنتاج ورفع هوامش الربح وتجويد الخدمات والسلع واختصار الزمن.

كل هذه التحولات فرضت واقعاً جديدا على تنظيم العمل، حيث لم تعد الانماط الكلاسيكية والاشكال المتعارف عليها لتنظيم العمل تلبي حاجيات الواقع الجديد وهي في معظمها أشكال تنظيمية تعود جذورها الى فترة الثورة الصناعية وكذلك فترة ما بين الحربين العالميتين والازمة الاقتصادية لسنة 1929 كالفوردية والطايلورية، الواقع الجديد يتطلب أشكالا أكثر مرونة وأكثر قابلية للتأقلم مع التحولات التكنولوجية والمجتمعية، هذا الواقع لم يعد يربط بين العمل ومقر العمل ولا بين زمن العمل ولا ينضبط لمسألة الحدود الجغرافية كما يفرض تحديات اقتصادية جديدة كالاقتصاد التشاركي او التعاوني collaboratif – patricipatif وهو نظام اقتصادي يقوم على تشارك الأصول البشرية والمادية ويشمل الابداع والإنتاج والتوزيع والاتجار والاستهلاك التشاركي، هذا النظام الاقتصادي الجديد اتخذ من المنصات الرقمية أحد أبرز تمظهراته وفرض تحولات تنظيمية للعمل نجم عنها واقع تعاقدي جديد فرض مجموعة من التحديات بالنسبة لتشريع والقضاء والفقه.

لقد بلغ عدد المنصات الرقمية سنة 2020 حسب تقرير منظمة العمل 777 منصة تقدم خدماتها على شبكة الانترنيت وما يقارب 8000 منصة تقدم خدماتها في الواقع مع نسب تركيز متفاوفة أبرزها الولايات المتحدة الهند والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. تنظيم العمل في هذه المنصات يتسم بالمرونة ويعطي استقلالية أكبر للعامل على مستوى تدبير الزمن والدخل وطريقة العمل، كما يمكن مالكي المنصات من تحقيق أرباح كبرى مع تكاليف منخفضة، وهي أيضا فرصة للحكومات من أجل مواجهة ارتفاع نسب البطالة ومضاعفة خلق مناصب الشغل دون تكلفة تذكر.

غير أن هذه الفرص والمزايا التي يحفل بها هذا النموذج الاقتصادي لم تكن سوى الشجرة التي تخفي غابة من التحديات التشريعية والحقوقية، التي أضحت تطرح مجموعة المقلقة حول وضع عمال المنصات الرقمية في ظل غياب الاطار القانوني المنظم لعملهم، وفي ظل حرمانهم من عدد كبير من الحقوق والامتيازات المهنية ؟

غياب الإطار القانوني

عرف اقتصاد المنصات الرقمية تطورا كبيرا خلال العقدين الماضيين، حيث تسارع هذا التحول بالموازاة مع ما تعرفه التكنولوجيا الرقمية من تطور كبير كما تسارع أيضا بسبب تعاقب الازمات الاقتصادية والجائحة التي تسببت في افلاس عدد كبير من المقاولات وتسريح الملايين من العمال في مختلف أنحاء العالم، وهو الامر الذي دفع بتجاه البحث عن بدائل، فكانت المنصات الرقمية هي البديل الذي تمكن من احتواء عدد كبير من العاطلين؛ وقد تعددت أشكال هذه المنصات، وعموما يمكن تقسيمها إلى نوعين، منصات الكترونية ” الويب” يؤدي العمال فيها أنشطتهم على الانترنيت كالبرمجة والمونتاج والترجمة وتحليل البيانات والمعطيات أو منصة خدمية تقدم خدمات مباشرة على أرض الواقع مثل خدمات التوصيل، سيارات الأجرة، الاعمال المنزلية، الرعاية الصحية والاجتماعية، هنا أيضاً يمكن تقسيم العمالة الى صنفين، عاملين أساسيين يعملون كمستخدمين وعمال مستقلين الذين تعمل المنصة وسيطا بينهم وبين عملائهم، وتجدر الإشارة الى غياب تعريف قانوني للمنصة الرقمية مع تسجيل بعض الاستثناء على مستوى بعض التشريعات الوطنية كمدونة الجمارك الفرنسية وقانون الاستهلاك الفرنسيين ومدونة التجارة.

ورغم منافعها الكبيرة تظل هذه المنصات حسب تقرير منظمة العمل الدولية تعمل في معظمها خارج نطاق العمل الرسمي، ولا يوجد للحكومات عليها سلطة، ولا يحكمها نظام عمل. حيث أن معظم منصات العمل الرقمي تضع اتفاقيات من جانب واحد، إذ تحدد هذه المنصات جميع ظروف العمل، مثل الأجور وساعات العمل وفض النزاعات، الأمر الذي يجعل من عمال المنصات الرقمية فئة هشة وضعيفة ليست لديها القدرة على المطالبة بحقوقها الأساسية وغير متمتعة بأي نوع من أنواع الحماية القانونية ومجبرة على قبول هذا الوضع في ظل الازمة الاقتصادية الراهنة.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة الى أنه في دراسة أنجزتها منظمة العمل الدولية ، تبين أن غالب العاملين في هذا القطاع يقل عمرهم عن 35 سنة، أغلبهم ذكور، كما كشفت ذات الدراسة أن أكثر من 60% منهم على درجة عالية من التعليم، كما يعتبر هذا العمل المصدر الرئيس لدخل معظم سائقي سيارات الأجرة عبر التطبيقات بنسبة 84% ، وعمال التوصيل بنسبة 90% ، ونحو ثلث عمال منصات الإنترنت.

غياب نصوص تشريعية تعرف المنصة الرقمية وغياب اجتهادات قانونية تعوض هذا الفراغ يطرح مجموعة من الإشكاليات المتعلقة بطبيعة العلاقة بين المشغل والعاملين في هذه المنصات في ظل غياب البعد المادي، وفي ظل احتكام الطرفين الى اطار تعاقدي مختل لا يحتكم الى مقتضيات قانون الشغل المغربي ولا يوفر أي حماية قانونية لهؤلاء العمال كما قد يتضمن التزامات مجحفة وحرمانا من بعض الحقوق كالحق في الاجازة مدفوعة الاجر والاجازة المرضية والحرية النقابية والتأمين الصحي والتعويض عن حوادث الشغل وهو ما يجعل عدد من عمال المنصات في حال التنازع يلجأون مباشرة الى القضاء من أجل أعادة التوازن الى هذا الاطار التعاقدي وحماية بعض حقوقهم الأساسية. إذ لا حماية لهم من المخاطر بمجرد العجز على عن القيام بالعمل إثر حادثة أو مرض تستبدل المنصة العامل لأنه غير مرتبط بعقد عمل معها، فهو حسب العقد المبرم عامل مستقل أو مقاول ذاتي يقدم خدمات مقابل أجر وهو ما يدفع بالعمال الى اللجوء الى القضاء الذي يضطر بدوره أمام الفراغ التشريعي, الى محاولة الوقوف عند طبيعة العلاقة بين المنصة والعامل وليس عند الاطار التعاقدي الذي وضع من قبل المشغل وهو ما سنعود اليه بالتفصيل في الفقرات المقبلة
قانون الشغل المغربي لا يدرج ضمن نطاق تطبيقه المنصات الرقمية فالمادة الأولى من هذا القانون تؤكد أن مقتضيات قانون الشغري تسري على الأشخاص المرتبطين بعقد شغل، أيا كانت طرق تنفيذه، وطبيعة الأجر المقرر فيه، وكيفية أدائه، و أيا كان نوع المقاولة التي ينفذ العقد داخلها، وخاصة المقاولات الصناعية والتجارية، ومقاولات الصناعة التقليدية، والاستغلالات الفلاحية والغابوية وتوابعها. كما تسري على المقاولات والمؤسسات التابعة للدولة والجماعات المحلية، إذا كانت تكتسي طابعا صناعيا أو تجاريا أو فلاحيا، وعلى التعاونيات والشركات المدنية، والنقابات والجمعيات والمجموعات على اختلاف أنواعها، كما تسري أحكام هذا القانون على المشغلين الذين يزاولون مهنة حرة، وعلى قطاع الخدمات، وبشكل عام على الأشخاص الذين ارتبطوا بعقد شغل، ولا يدخل شغلهم في نطاق أي نشاط من النشاطات المشار إليها أعلاه.

بالإضافة الى ما سبق، تسري أحكام هذا القانون تسري أحكام هذا القانون أيضاء على الأشخاص الذين يضعون أنفسهم في مقاولة ما، رهن إشارة الزبناء لكي يقدموا إليهم مختلف الخدمات،؛ الأشخاص الذين عهدت إليهم مقاولة واحدة بمباشرة مختلف البيوعات وبتلقي مختلف الطلبات، إذا كان هؤلاء الأشخاص يمارسون مهنتهم في محل سلمته لهم المقاولة، ويتقيدون بالشروط والأثمنة التي تفرضها تلك المقاولة؛ الأجراء المشتغلين بمنازلهم.

من خلال مطالعة هذه المقتضيات، يتضح بجلاء أنه لا يمكن تطبيقها على الواقع الذي فرضته المنصات الرقمية، حيث يغلب الطابع اللامادي على تنظيم العمل، فلا ساعات عمل محددة ولا وجود لمقر عمل ولا وجود لارتباط مباشر بين العامل والمنصة التي قد يكون لا وجود قانوني لها أيضاً، كما أن رابط التبعية بين المنصة والعامل يصعب تتبعه في ظل الطابع اللامادي الذي يهمين على تنظيم العمل داخل المنصات، فالمادة 6 من قانون الشغل المغربي تعد أجيرا فقط الشخص الذي التزم ببذل نشاطه المهني، تحت تبعية مشغل واحد أو عدة مشغلين، لقاء أجر، أيا كان نوعه، وطريقة أدائه.

صعوبة اثبات رابط التبعية شجع هذه المنصات على وضع اطار تعاقدي خاص جد مرن وغير قابل للتفاوض، يصنف من خلاله هؤلاء العمال ” عمالا مستقلين” أو” مقاولين ذاتين” يتم احتساب أجرهم بعدد ساعات العمل التي ينجزونها على المنصة أو لصالح المنصة، كما تلزم عدد من هذه المنصات خاصة العاملة في قطاعي التوصيل والنقل هؤلاء العمال بالتوفر على أدوات العمل.
هذا الاطار التعاقدي المختل كرس ضعف وضعية عامل المنصة في مقابل تقوية وضع المنصة التي منحت لها يمنح سلطات إضافية كالمرونة في تسريح العمال، فهي غير ملزمة بتعويضهم، وكذلك امكانية التنصل من مسؤولياتها الاجتماعية، وعدم تحمل تبعات حوادث الشغل والتهرب من أداء الضرائب، والتحرر من أي شكل من أشكال الفعل النقابي الذي قد يشكل ضغطا عليها من أجل تحسين أوضاع العمال، هذه ” الامتيازات” أغرت عددا من المنصات على توسيع أنشطتها وساعدتها على خفض تكلفة الإنتاج ومضاعفة الأرباح.

اختلال التوازن التعاقدي والفراغ التشريعي دفع بعمال المنصات الى التوجه نحو القضاء من أجل ضمان حقوقهم، خاصة حين يتعرضون لحوادث الشغل أو حين يتم تسريحهم بشكل تعسفي، القضاء بدوره عمل على محاولة اعاة تكييف عذه العلاقة التعاقدية رغبة في حماية الطرف الضعيف، بالاستناد الى تتبع رابطة التبعية التي بمجرد اثباتها نصبح أمام علاقة تعاقدية خاضعة لقانون الشغل بصرف النظر عن الاطار التعاقدي الذي وضعته المنصة، الان تكيف هذا الاطار لا يرتكن فقط الى الإرادة المعبر عنها في العقد فقط والى معنى العبارات الواردة فيه بل يتجاوزه الى رصد ظروف وطبيعة العمل وكيفية تنفيذه، فعمال المنصات الرقمية يؤدون عملا لصالح هذه المنصات مقابل أجر ودور المنصة هنا يتجاوز الوساطة لان العامل لا يختار العميل، فالمنصة هي التي توجهه اليه، والعامل مرتبط بالمنصة بواسط الاجر الذي يتلقاه منها وليس من العميل وينضبط للشروط التي تفرضها عليه كما ان المنصة قد توقع عقوبات عليه في حالة الاخلال بأحد التزاماته، وهو ما لا يتوافق مع وضع ” العامل المستقل” أو المقاول الذاتي ” الذي تفرضه هذه المنصة على هؤلاء العمال، هذا الوضع يجعل العامل في وضع تبعية واضحة، حتى ان لم تكن في بعدها المادي واضحة فأنها جلية على المستوى الاقتصادي وكذلك في بعدها المرتبط سلطة المنصة في الإشراف والتوجيه وإصدار الأوامر والتعليمات إلى العامل وترتيب الجزاءات، وهو ما يميز العمل التابع الذي يخضع لقانون الشغل عن العمل المستقل الذي ليس فيه صاحب عمل يأمر ويوجه ويوقع الجزاء على من يخالف تعليماته.

وفي هذا السياق، نجد أن القضاء الفرنسي قد انتصر لهذا التعليل، فلقد قررت محكمة النقض الفرنسية أن العقد الذي يجمع بين بين شركة أوبر والسائق أنها عقد عمل. لأنه عند الاتصال بالموقع الرقمي أوبر ، يوجد رابط تبعية بين السائق والشركة، وعليه فالسائق لا يؤدي الخدمة المطلوبة بصفته عامل مستقل بل بصفته أجير، ومن ثم أقرت للسائق حقه في المطالبة بالتعويض في حالة منعه دون وجه حق من الدخول على التطبيق الخاص بالشركة باعتبار ذلك إنهاء تعسفي لعقد العمل ونص الحكم في حيثياته أن (الحرية التي يتمتع بها السائق في اختيار توقيت دخوله على التطبيق و كذا ساعات عمله لا تدل في حد ذاتها على عدم وجود علاقة العمل و نظام التبعية ، لأن السائق بمجرد إتصاله بالتطبيق أو المنصة الرقمية أصبح جزء خدمي منظم من قبل الشركة، كما أن سائق الدراجة الذي ينقل الطلبيات بإشراف وإدارة شركة أوبرUber ، ليس عامل مستقل بل أجير في علاقة تبعية مع الشركة. ويضيف الحكم في حيثياته أن عنصر التبعية يرتكز أساسا على قدرة وسلطة المشغل في إصدار الأوامر والتوجيهات، ومراقبة التنفيذ ومعاقبة عدم احترام التوجيهات الصادرة عن إدارة العمل وكون السائق ليس ملزم بالاتصال أو الدخول الى الموقع، ومدة غيابه، وكونه لا يعاقب على ذلك، أمور لا تدخل في تقدير مسألة وجود علاقة التبعية من عدمها .

هذا الوضع المبهم، يجعلنا نطرح مجموعة من التساؤلات بخصوص هذا النموذج الاقتصادي المتعارض مع مقتضيات وروح قوانين الشغل في مختلف أنحاء العالم، هل يجب القطع معه ؟ أم يجب منح فرصة للمشرع من اجل تدارك هذا الوضع والبحث عن مخرج يجمع بين التوازنات الاقتصادية والحاجيات التنموية وحماية العمال وضمان حقوقهم ؟

أي بديل للوضع الراهن

الى حدود الساعة لا توجد تشريعات وطنية أو دولية الغاية منها حماية هذا الصنف من العمال وأمر حمايتهم يظل في الغالب متروكا لإرادة المنصة والقائمين عليا ، وفي هذا السياق أورد تقرير منظمة العمل الدولية ( السالف الذكر) أن هناك مجموعة من التجارب التي تستحق الوقوف عندها، ففي الدنمارك تعتبر بعض المنصات أن العاملين موظفين لديها يتمتعون بكامل الحقوق، كما أن هناك منصة في البيرو تقدم رواتب للمتقاعدين لديها، وهناك منصات في فرنسا تضمن حق التوقف عن العمل، والحصول على أجر لائق. معظم هذه التجارب تعتبر إيجابية وتشكل خطوة نحو حماية العاملين، وتحقيق الأمان الوظيفي لديهم، لكنها رغم ذلك تعتبر الاستثناء وليس القاعدة، لذا يظل تدخل المشرع والقضاء مطلوبا من أجل جعل الحماية القانونية لهؤلاء العمال قاعدة وليس استثناء.

لقد اصبح مطلب الاعتراف بعمال المنصات أجراء كاملي الحقوق مطلبا ملحا لدى عدد كبير منهم في مجموعة من الدول، كالولايات المتحدة الامريكية التي خاض فيها عمال منصة امازون إضرابات متتالية وفرنسا التي لجأ عدد من عمال منصة Uber الى القضاء من أجل إعادة تكييف علاقتهم التعاقدية على أساس نظام الاجراء، أو على الأقل الاعتراف بوضعهم الخاص ومنحهم حماية قانونية أكبر.

وفي هذا السياق، حاول المشرع من خلال قانون خمري Uber ل 10 غشت 2018 الذي دخل حيز التنفيذ في 01 نونبر 2019 تقنين وضبط أنشطة النقل المؤدى عنها على المنصات الرقمية عبر اعتبار هؤلاء السائقين مستخدمين وليسوا عمالا مستقلين، وهو بذلك انتصار لتوجه القضاء الفرنسي الذي سبق وأن اعتبر وجود علاقة تبعية بين هؤلاء السائقين والمنصة بموجبه تم إعادة تكيف العقد. نفس التوجه اعتمد من قبل المشرع في ولاية كاليفورنيا الامريكية في قانون صودق عليه في 18 سبتمر 2019 اعتبر العاملين في المنصات أجراء وفي إيطاليا تم تعديل قانون الشغل في 2 نونبر 2019 لتعزيز حماية عمال المنصات. وعلى الرغم من كل هذه الحركية التشريعية الا انها لم ترقى الى مستوى وضع اطار قانوني يكفل حماية حقيقة لعمال المنصات الرقمية.

هذا الفراغ التشريعي، الذي لم تعوضه كل هذه المحاولات التشريعية السالفة الذكر دفع باتجاه التفكير في حلول أكثر واقعية وملائمة لخصوصية عمال المنصات، حيث ظهر توجه آخر لا يكتفي فقط بالدعوة الى تعزيز الحماية او ادراج عمال المنصات في خانة الاجراء، بل يدعو الى خلق نظام جديد الى جانب نظام الاجراء والعمال المستقلين، على شاكلة أنظمة Worker و Trade بانجلترا واسبانيا في حين دعى آخرون الى تنظيم العلاقات بين المنصات الرقمية والعمال في اطار الاتفاقيات الجماعية وهو ما ذهبت اليه فعلا مجموعة من الدول الاسكندنافية التي دفعت باتجاه وضع أسس اطار تعاقدي تفاوضي يكفل حماية اكبر لعمال المنصات.

بالنسبة لفرنسا، فانها تعد من بين الدول القلائل التي قطعت أشواطا كبيرة على طريق صياغة تشريعات وطنية تراعي خصوصية عمال المنصات، حيث نجد تعريفا قانونيا للمنصة الرقمية وضع سنة 2015 في مدونة التجارة وفي سنة 2016 تم تعديل قانون الشغل بواسطة القانون رقم )2016/1088) حيث ادرج مقتضيات في الكتاب الثالث تحمل عنوان مقتضيات خاصة بعمال المنصات الرقمية، تنص على الزام المصنة الرقمية بتحمل مسؤولياتها الاجتماعية إزاء العمال عبر التكفل المباشر أو غير المباشر بالتزاماتها الاجتماعية خاصة ما يتعلق منها بالتامين عن حوادث الشغل وتعويض مصاريف التكوين والاعتراف بحق العمل النقابي.

وعلى الرغم من كل هذه الجهود المبذولة على المستوى التشريعي، الا انها الى حدود الساعة تظل جهودا مشتتة وغير قادرة على توفير حماية حقيقة لعمال المنصات الامر الذي يدفعهم الى اللجوء الى القضاء، عبر دعوى إعادة تكيف العقد، حيث سدل على سبيل المثال لا الحصر في فرنسا ارتفاع كبير في عدد دعاوى إعادة التكييف التي استجاب لمعظمها القضاء الفرنسي، وهو الامر الذي خلق جدلا كبيرا في الأوساط الفرنسية وعزز من حالة الانقسام إزاء مسالة إيجاد حل نهائي لعمال المنصات. بين تيار داعي لتعزيز حماية الاجتماعية لهؤلاء العمال عبر ادراج عدد من المقتضيات افي قانون الشغل والتجارة وغير من النصوص ذات الصلة دون الحاجة الى افرادهم باطار قانوني خاص ونظام تعاقدي جديد وهو ما سيغني أيضا عن سلوك مساطر إعادة تكييف العقود وهي كانت توصية مجلس الشيوخ الفرنسي في حين دعا المجلس الوطني الرقمي الفرنسي الى تشجيع الحوار الاجتماعي بين العمال والمنصات الرقمية من أجل التوصل الى اتفاق يراعي خصوصية العمل ويغني عن اخراج نظام خاص او سلوك المساطر القضائية.

في الجهة المقابلة نجد من يرى ان تعزيز الحماية لا ينفي الطابع الغير قانوني الذي يسم العلاقة التعاقدية بين المنصات الرقمية والعمال وهو ما سيبقي باب القضاء مفتوحا ولن يجدي في خفض المنازعات بين العمال والمنصات، اذا تعزيز الخماية هو جزء من الحل وليس كل الحل لان الأصل هو تأمين العلاقة التعاقدية عبر جعل هذا العقد يعكس الوضع القانوني الحقيق لهؤلاء العمال. وهو ما يمر وجوبا عبر خلق اطار قانوني جديد خاص بين الاجير والعامل المستقل يستحضر فيه عامل التبعية الاقتصادية واستقلالية العمال في مباشرة أعمالهم، هذا الاطار سيكون أكثر مراعاة لوضعية عمال المنصات ولتنظيم العمل الذي لا يتماشى مع نظام الاجراء .

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد