التأويل عند ابن رشد

660

بقلم محمد احقيقو

يعتبر ابن رشد، في نظر العديد من القراء والمثقفون، منطلقا لتأسيس الحداثة الفكرية من داخل الثقافة العربية الإسلامية، لاستطاعته التطرق إلى أهم إشكالية في تلك الشرطية التاريخية، وهي إشكالية العقل والدين بما هي إشكالية فلسفية ولاهوتية، وتتجلى قوة الطرح الرشدي في قدرته على التوفيق بين الشريعة والحكمة، إذ دافع عن المنطق البرهاني كوسيلة للنظر في قضايا الوجود. وسنحاول في هذه المقالة توضيح بعض معالم الفكر العقلاني الرشدي وكيف دافع عن حق الفلاسفة في التأويل، كما سنحاول تسليط الضوء حول إشكالية العامة والخاصة؛ وهي إشكالية عويصة وقفت، ولازالت تقف، عائقا أمام التأويل العقلاني البرهاني في الثقافة العربية الإسلامية، وسنحاول في الأخير تقديم ملاحظة حول شروط التأويل عند ابن رشد.

لقد عمل ابن رشد في كتابه “فصل المقال” على الدفاع عن حق الفلاسفة في التفلسف وتأويل الشرع على ضوء المنطق، معتمدا في ذلك على الشرع، لاسيما وأنه يتيح إمكانية إعمال العقل للنظر في الصنائع ذلك، ” فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به، فذلك بين في غير ما آية من كتاب الله، تبارك وتعالى، مثل قوله تعالى ” فاعتبروا يا أولي الأبصار”، ويؤكد هذا النص القرآني، حسب ابن رشد، وجوب القياس العقلي ( القياس البرهاني ). يرى أن النظر في الموجودات هو أمر يبيحه الشرع، حيث يشكل القياس العقلي في نظره وسيلة لمعرفة الصانع، ولا يجد فيلسوف قرطبة حرجا في الدفاع عن المنطق الأرسطي، بل يعتبره ” أتم أنواع القياس”، ويشير إلى أن من ” أراد أن يعلم الله تبارك وتعالى، وسائر الموجودات بالبرهان،  أن يتقدم أولا فيعلم أنواع البراهين وشروطها، وبما يخالف القياس البرهاني، والقياس الجدلي، والقياس الخطابي، والقياس المغالطي”، إذ يحرص على التمييز بين هاته الأقيسة حتى لا يتم الخلط بين القياس الصادق والقياس المغلوط.

كما يدافع ابن رشد عن الحق في التأويل وذلك حين حديثه عن استحالة الإجماع العام، حيث يقول: ” أما لو ثبت الإجماع بطريق يقيني فلم يصح. وأما إذا كان الإجماع فيها ظنيا فقد يصح. ولذلك قال أبو حامد وأبو المعالي وغيرهما من أئمة النظر أنه لا يقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل من أمثال هذه الأشياء”، ويقول أيضا “ويشبه أن يكون المختلفون في تأويل هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين، وإما مخطئين معذورين”، يبين لنا، هنا، أن التأويل من حق أهل البرهان، إن أصابوا لهم أجران، وإن لم يصيبوا فلهم أجر واحد، وفي هذا القول دفاع عن الفلاسفة باعتبارهم أهل المنطق والبرهان. السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو، ما الذي يجعل من الإجماع العام أمرا مستحيلا؟ يجيبنا ابن رشد في هذا الصدد بقوله: ” فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك صناعة علم الهيئة، ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أم يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وأبعاد بعضها عن بعض، لما أمكنه ذلك. والفقه نفسه لم يكمل النظر فيه إلا في زمن طويل”، بمعنى، أن فكرة الإجماع ليست بالمعنى المطلق، بعبارة أخرى، ما أجمع حوله السلف قد لا يناسب الخلف. ما نفهمه من هذا القول، هو أن تجدد العلوم  وتنوع الاستشكالات يفرض علينا بالضرورة إعمال العقل البرهاني لإيجاد حلول موافقة لإشكالات كل عصر، ” فقد يجب علينا أن ألفينا لمن تقدمنا من الأمم… فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم”. بحسب ما تقدم، فإن التأويل بهذا المعنى متجدد وقائم، شريطة إعمال البرهان في القضايا المطروحة، وهو ما يبرز مدى تمسك ابن رشد بالمنطق الأرسطي، وبالتفسير العقلاني على وجه التحديد.

هكذا إذن، يمكننا القول أن إشكالية العامة والخاصة هي من أكبر الإشكالات التي واجهها فلاسفة الإسلام، ويرجع هذا التقسيم في حقيقته، إلى التفاوت في الأفهام والعقول، إذ هناك تفاوت واضح ، يظهر دائما، أثناء الحديث عن الأمور الميتافزيقية، وقد نبه ابن رشد إلى ضرورة حصر التأويل على مستوى الخاصة، أي ” الراسخون في العلم “، حيث قال: ” وأما الجمهور الذين لا يقدرون على أكثر من الأقاويل الخطابية، ففرضهم امرارها على ظاهرها، ولا يجوز أن يعلموا ذلك التأويل أصلا…لا يجوز أن يكتب للعامة ما لا يدركونه، من أباح التأويل للجمهور فقد أفسده”. سبب هذا التحفظ من جانب ابن رشد، راجع كما قلنا سابقا، إلى التباين في الأفهام وطرق التصديق، ففهم المتفلسفة ليس هو نفس الفهم الموجود عند عامة الناس، ويتفق ابن رشد وحجة الإسلام في هذه النقطة بالذات، حيث يؤكد هذا الأخير في كتابه ” إلجام العوام عن علم الكلام” على ضرورة حصرالقضايا الكلامية على مستوى الخاصة وعدم نقلها لعامة الناس.

رغم دفاع ابن رشد عن الحق في التأويل وفي إعمال المنطق البرهاني، إلا إنه يؤكد على ضرورة التمسك بالأصول الثلاثة وهي: وجود الله، إرساله للأنبياء، ويوم الحساب. ويعتبر بأن النظر في هذه القضايا جائز لأهل التأويل، وهم الراسخون في العلم. ويرى أنه مادام يجوز خرق الإجماع فلا يجب تكفير الفلاسفة كما فعل أبو حامد، ” فإذا لم يجب التكفير بخرق الإجماع في التأويل إذ لا يتصور في ذلك إجماع، فما نقول في الفلاسفة من أهل الإسلام، كأبي نصر وابن سينا؟ “، يبين لنا هذا القول مكانة الفكر العقلاني عند فيلسوف قرطبة، فهو لم ينكر الأصول، لكنه اعتبر أن النظر فيها جائز، بل يدعمه الشرع ويدعوا إليه، فإذا كان الغزالي قد كفر الفلاسفة، فإن ابن رشد بدوره، قد اعتبر أن عدم الإيمان بالأصول يعد كفرا، ولفهم ذلك بشكل واضح، ينبغي استحضار الشرطية التاريخية والجو الثقافي السائد وقتذاك.

إذا كان يدعونا ابن رشد إلى النظر في قضايا الوجود عبر إعمال العقل والمنطق، وإذا كان ينبهنا إلى صعوبة استيفاء الأقدمين النظر في جميع العلوم والإشكالات، فإن في ذلك دعوة إلى أن نعمل النظر في قضايا عصرنا على اعتبار أن قضايانا تخصنا ويستحيل أن يكون قد تم الحديث عنها، والدليل على ذلك، أن لكل عصر قضاياه وظروفه الخاصة، وبلغة نيتشوية معاصرة، أن نعترف بالطابع التراجيدي للوجود.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد