الدكتور علي بوطوالة.. علاقة الثقافة بالبناء الديموقراطي

82٬660

بالنسبة لمداخلتي سأحاول تقديم عناصر للإجابة على ثلاثة أسئلة:

  • اية علاقة بين الثقافة، وخاصة الثقافة السياسية وعملية التحول الديموقراطي؟
  • أية ثقافة تعرقل التحول نحو الديموقراطية في المنطقتين العربية والمغاربية؟
  • هل هناك حاجة مجتمعية لتحديث وتجديد الثقافة السياسية من اجل ترسيخ الديموقراطية في المغرب؟

للإجابة على هذه الأسئلة، سأبدأ أولا بتحديد مفاهيم الثقافة، والثقافة السياسية، والتحول الديموقراطي، قبل الوقوف على الحاجة للثقافة الديموقراطية كأهم مرتكزات البناء الديموقراطي.

 

  • مفهوم الثقافة:

المعنى الشائع للثقافة حاليا هي مجموع المعارف والافكار والمعلومات والخبرات التي اكتسبها فرد او جماعة من خلال تعليمه وعمله ومختلف تجاربه، وهي كلمة حديثة العهد في الخطاب العربي، ففي المعاجم العربية القديمة حسب ما اورده الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه “المسالة الثقافية في الوطن العربي “يقال “ثقف الولد” يعني، صار حاذقا، و”ثقف الكلام “معناه، حذقه وفهمه بسرعة”، اي ان معنى الثقافة لدى العرب قديما هي “الحذق والذكاء وسرعة الفهم”، ولا علاقة لها بالقراءة والكتابة.

عند الفرنسيين، كلمة “culture”كانت تعني الزراعة والفلاحة قبل القرن السادس عشر، وبعده، أصبح المقصود بها “تنمية القدرات العقلية بالتعلم والتدريب “وهكذا تم الانتقال من ربطها بإنتاج الأرض الى حصرها على إنتاج الفكر، ومعلوم أن التساؤل الشهير لمونتاني Montaigne “tête bien faite ou tête bien pleine ?حول دور التعليم، يشير الى عملية الإنتاج الفكري في بلورة الثقافة ونشرها داخل المجتمع.

عند الانغلوسكسون  يقصد بالثقافة “مختلف المظاهر المادية والفكرية لمجموعة بشرية معينة”  ويقول عالم الأنثروبولوجيا تايلور Taylor “ان الثقافة هي ذلك المركب الكلي الذي يتضمن المعارف، والعقائد والفنون والاخلاق والقوانين والعادات، واي قدرات وخصال يكتسبها الانسان نتيجة عضويته في مجتمع “.هذا التعريف يتقاطع مع تعريف منظمة اليونسكو الذي يعتبر الثقافة “مجموعة من المعارف الدينية والعقلية والمادية والعاطفية لمجتمع او لجماعة من الناس، وهي تشمل بالإضافة للفن والادب اسلوب الحياة، وطرق العيش، ومنظومة القيم والعادات والعقائد. ”

بعد تحديد مفهوم الثقافة بمعناها العام، لابد من التطرق لمفهوم الثقافة السياسية، لأن هذه الاخيرة هي المرتبطة بالبناء الديموقراطي.

 

  • مفهوم الثقافة السياسية:

الثقافة السياسية من طبيعة الحال، جزء من الثقافة العامة للمجتمع، وهي محصلة تفاعل شعب مع محيطه الجغرافي، ورصيده التاريخي، وعلاقاته بباقي الشعوب بسلبياتها وإجاباتها، وباختصار فالثقافة السياسية تعني” مجموعة من المعارف والأفكار والتوجهات المتعلقة بقضايا السياسة، اي قضايا الدولة والسلطة والشرعية والانتماء السياسي والمشاركة في تدبير الشأن العام “وهي بالتالي “منظومة من الافكار والرموز والنظريات والقيم التي يعتمدها شعب في تعامله مع الدولة والحكومة والاحزاب والتنظيمات السياسية”.

الثقافة السياسية لمجتمع ليست كلا متجانسا، بل يمكن التمييز فيها بين عدة أنماط، كالثقافة التقليدية مقابل الثقافة الحديثة، والثقافة التقدمية مقابل الثقافة المحافظة، والثقافة الليبرالية مقابل الثقافة الاشتراكية. الخ

بصفة عامة داخل كل مجتمع وحسب كل مرحلة تاريخية، يمكننا التمييز، بين عدة ثقافات، ثقافة سائدة او مهيمنة، تعمل المؤسسات الرسمية بما فيها التعليم والإعلام على إعادة انتاجها وادامة هيمنتها لضمان استمرارية الولاء للسلطة السياسية. وهكذا تعمل المؤسسات الدينية والتعليمية والاعلامية بوسائلها الخاصة على نشر وتعميم واعادة إنتاج الثقافة السياسية التي تشكل مرجعا للنظام السياسي. في المقابل، نجد ثقافات اخرى منافسة أو متصارعة مع الثقافة السائدة، تعمل قوى المعارضة على انتاجها ونشرها، ومنا الثقافة الديموقراطية، بهدف الوصول الى تحقيق هيمنة إيدلوجية مضادة للايدلوجية الرسمية.

بالنسبة للمغرب، الجميع يعرف حجم التأثير الذي تمارسه مثلا وزارة الاوقاف والشؤون الإسلامية من خلال إحياء المواسم الدينية ومدارس التعليم الأصيل من جهة، ومن جهة اخرى الدور الذي تلعبه المهرجانات الغنائية كموازين، وتيميتار والسينمائية في عدة مدن مغربية. وتجدر الإشارة أن تغيير السياسة التعليمية في بداية ثمانينيات القرن الماضي، قد أدى إلى تحولات عميقة وشاملة في ثقافة وسلوك الأجيال الشابة التي تشبعت بالفكر الاصولي المعادي للديموقراطية.

 

  • مفهوم التحول الديموقراطي:

من المعلوم أن كلمة ديموقراطية في الأصل تعود للكلمة اليونانية “Demos”اي الشعب، وكلمة” Cratos”اي الحكم أو السلطة. ومعناها “حكم الشعب نفسه بنفسه “. ويعرفها الفقه المعاصر بالحكم الذي يقوم على السيادة الشعبية وفصل السلط والتداول السلمي على السلطة وسيادة الحريات العامة وحقوق الإنسان.

انطلاقا من هذا التعريف، يمكن أن نتساءل عن الطبيعة الحقيقية للأنظمة السائدة في المنطقة المغاربية، والتي تدعي كلها انها ديموقراطية. فهل هناك تداول سلمي على السلطة؟ وهل توجد دولة مؤسسات وفصل للسلط؟ وهل يكفي إجراء الانتخابات للقول أن هناك ديموقراطية؟

للإجابة على هذه الأسئلة، لابد أن نعرف أولا، هل تحقق تحول ديموقراطي في هذه المنطقة.

التحول الديموقراطي يعني تغيير النظام السياسي من صيغة غير ديموقراطية، الى صيغة ديموقراطية. والتحول الديموقراطي حسب صمويل هان تغتون “عملية معقدة، تشارك فيها مجموعات سياسية متباينة تتصارع على السلطة، وتختلف من حيث ايمانها أو عداءها للديموقراطية، وهي مسلسل تطويري يتم فيه الانتقال من نظام سياسي سلطوي مغلق، لا يسمح بالمشاركة السياسية ولا بالتداول على السلطة الى نظام سياسي مفتو ”

هذا التحول لا يتم بشكل خطي، ولا وفق نمط واحد. وباستقراء التجارب التاريخية، نجد باختصار الأنماط التالية:

  • التحول عبر صيرورة طويلة ومعقدة كما حدث في بلدان أوروبا الغربية.
  • التحول عبر قطيعة سريعة مع انظمة شمولية، مثل ما وقع لبلدان اوروبا الشرقية سنة 1989.
  • التوافق بين قيادة نظام حاكم ومعارضة قوية كما حدث في جنوب افريقيا.
  • واخيرا التحول عبر تدخل أجنبي بعد استعصاء الانتقال السلمي، كما حدث في بعض البلدان العربية، التي لم تتجاوز حتى الآن التناقضات الكبرى والصراع العنيف حول السلطة (العراق، ليبيا، سوريا واليمن).
  • حالة بلدان المنطقة المغاربية، حيث تعتبر الأنظمة الحالية، انظمة هجينة، اي ليست سلطوية بشكل مطلق، ولكن ليست ديموقراطية أيضا، فالمغرب مصنف في الرتبة 100 في سلم الترتيب العالمي المتعلق بالديموقراطية. فهو يتمتع بهامش ديموقراطي، يضيق ويتسع وفق ميزان القوى وتأثير الضغوط الغربية.

حسب عدة ابحاث ودراسات، ما يفسر استعصاء الانتقال الى الديموقراطية في المنطقتين العربية والمغاربية، هو ثقل وتأثير الثقافة التقليدية، اضافة لتأثير التخلف الاقتصادي والاجتماعي. فثقافة الشيخ والمريد، والآداب السلطانية المهيمنة في المجتمع لا تسمح بانتشار القيم الديموقراطية.

 

  • في الحاجة للثقافة الديموقراطية:

الثقافة الديموقراطية من اهم مرتكزات البناء الديموقراطي، لأنها تحتوي على مبادئ وقيم إنسانية راقية كالإيمان بالحق في الاختلاف، والتعددية الثقافية والسياسية، وتقديس الحرية، والمساواة بين الجنسين، والتضامن، وبصفة عامة، اعتبار المواطنة مصدر كل الحقوق والواجبات.

هذه المبادئ والقيم حيمنا تتحول إلى قناعات، هي التي تساعد على صياغة تعاقد سياسي واجتماعي يشكل اطارا مرجعيا للدولة وللأحزاب السياسية ولمكونات المجتمع المدني.

إن الثقافة الديموقراطية، هي منظومة قيم جوهرية كالحرية والكرامة والمساوة والعدالة، لا تستقيم اية حياة ديموقراطية بدونها، اما الانتخابات والمؤسسات المنتخبة، فهي رغم ضرورتها، واهميتها، مجرد آليات لا يضمن وجودها ترسيخ الديموقراطية الحقيقية، بدليل أن هناك بلدان تتوفر على هذه الآليات، ولا تعتبر ديموقراطية.

بناء وترسيخ الديموقراطية إذن في حاجة للتنشئة السياسية لغرس القيم الديموقراطية ابتداء من الأسرة، مرورا بالمدرسة ووصولا الى وسائل الإعلام والتواصل وتنظيمات المجتمع المدني.

تبقى ملاحظة اخيرة لابد منها، وهي أن على القوى الديموقراطية وعموم المثقفين التوظيف الخلاق لما توفره الثورة الرقمية من إمكانيات، ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر الوعي الديموقراطي وتعميم قيم المواطنة الحقة في افق توفير شروط ثورة ثقافية، تساهم في نقل شعوب هذه المنطقة الى مصاف الدول المتحضرة.

 

الدكتور علي بوطوالة

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد