المنصوري.. قراءة فلسفية في كتاب “بوح متعدد” لكاتبه محمد شخمان
من خلال هذه الورقة سوف نحاول مقاربة التجليات الفلسفية في الكتاب المعنون ب “بوح متعدد” لصاحبه الكاتب “محمد شخمان”. ونحن نتابع هذه التجليات الفلسفية في الكتاب يبدوا لنا للوهلة الأولى حضور للعديد من معالم التفكير الفلسي، بشكل يكاد ينتظم كل صفحات الكتاب. من قبيل أسلوب النقد، الرؤية التنويرية، الفكر الحداثي ،المنهج الجينالوجي التفكيكي…كل هذه المعالم والتجليات الفلسفية وغيرها امتزجت بمعاني كثيفة ،وثقل في التجارب الحياتية الخاص بالمؤلف، إلى جانب عمق في المرجعيات الفلسفية والفكرية التي يستدعيها الكاتب.
إن الكتاب موضوع هذه الورقة –بوح متعدد- هو كتاب متعدد المشارب التي ينهل منها الكاتبّ، وفي نفس الان يصب في نهر المشترك الإنساني، في عدد كبير من الثيمات والقضايا ،من حب و قلق وسعادة وأمل و إحباط وصراع وتحديات وفضيلة…وهو الأمر الذي منح رحابة في أفق فهم وتأويل معاني الكتاب ،وفق قراءة للراهن بما هو راهن له سمك تاريخي، يضرب بجذوره البعيدة في عمق الذاكرة الإنسانية بصفة عامة، والذاكرة المغربية بصفة خاصة. ذلك أن مقاربة الكاتب للراهن بهذه الروح الفلسفية مكنه من بلورة رؤية استشرافية للمستقبل. فعلى سبيل المثال يستهل المؤلف الكتاب بمحاولة التأصيل الفلسفي للمجتمع المدني من خلال استدعاء نظريات العقد الإجتماعي، التي صاغها نخبة من الفلاسفة أمثال جون لوك، و جون جاك روسو ،وطوماس هوبس…كما استدعى أيضا رائد فلسفة التاريخ هيجل، والمادية التاريخية مع كارل ماركس، والفلسفة التنويرية في لبوسها الثقافي مع غرامشي…إلا أن هذا التأصيل الفلسفي للمجتمع المدني لا يعني انتفاء هوية الكاتب، بحيث يحضر الكاتب بثقل تجاربة الحياتية العميقة ،التي اسعفته في تشخيص واقع المجتمع المدني في المغرب، في أفق الرهان على نضج مفهوم المجتمع المدني لدى الوعي الجمعي، ومن تمت بناء مجتمع مدني حقيقي على أسس علمية صلبة…
وفي سياق الرهان على هذا الأمل المستقبلي نصادف تجلي واضح لنموذج الثقافة المنشودة لدى المؤلف، وهي الثقافة العقلانية المؤسسة على العلم والمعرفة التي من شأنها أن تحرر الإنسان من قيود التخلف والجهل و الإنحطاط .وفي الوجه المقابل نجد نقد لادع لمختلف أشكال الثقافة الزائفة الإرتكاسية التي تكرس الوضع المأزوم. ولعل هذا الأفق الفلسفي الذي بلوره الكاتب حول الفعل الثقافي يحيلني على الطرح الجذري الذي قدمه “غرامشي” حول المثقف العضوي، باعتباره المثقف الحقيقي الحامل لهموم واقعه الإجتماعي، والوفي للخط الجماهيري الديموقراطي التقدمي. التواق للحرية والكرامة الإنسانية…هكذا يمكن أن يكون للفعل الثقافي دور طليعي تقدمي، يحقق مزيدا من الرقي والازدهار في مختلف مناحي الحياة الإجتماعية والسياسية و الإقتصادية.
ولتعميق هذا التأصيل الفلسفي للفعل الثقافي، عمد الكاتب إلى استدعاء بعض المرجعيات الفلسفية للحداثة. وهي مرجعيات ارتبطت أساسا بخروج الإنسان من بوثقة الوصاية والحجر، إلى حالة التنوير والحرية .وهذه الغايات القصوى للحداثة لا تحضر في الكتاب كشعار بقدر ما تحضر كوعي و مبدأ وممارسة .
ولما كانت الحداثة تعبر عن رؤية تنويرية للذات وللعالم ،قوامها جملة من المرتكزات ،في مقدماتها الإعتراف بالغير باعتباره إنسان يمتلك حق الوجود الإنساني الخالص، ينقلنا الرجل صاحب بوح متعدد، إلى البوح بعلاقاته الإنسانية المتعددة مع نخبة من الأشخاص ،الذين يسكنونه على نحو جميل- بلغة الفيلسوفة جوليا كريستيفا- من بينهم ابنته ماجدولين ،والأب، وزوجة العم ،وحسن جعفر، وحسن بن موسى، والحاج عمر الباز، والزعيم المهدي بن بركة ،والقائمة طويلة…هذا الإستدعاء لثلة من الأشخاص حقق حالة من التناص مع فلسفة الغيرية، التي شكلت وبصمت ذاكرة الكاتب بطابع من الجمالية الوجودية الحاضرة في الان والممتدة عبر الماضي، والحاملة لأمال المستقبل. وهذه الفلسفة الجمالية تتعدى حضور الأشخاص ،إلى حضور الفضاءات والأماكن من قبيل تونس الخضراء والداخلة مدينة الجمال…
علاوة على كل هذه المعالم الفلسفية التي تحضر بقوة في الكتاب ،استوقفني كثيرا المنهج التفكيكي الذي وظفه الكاتب بشكل محايث أثناء مقاربته لكثير من القضايا، التي لطالما اعتبرت بديهية ،.فتفكيكه لواقع المجتمع المدني المغربي، والفعل الثقافي، وسؤال الحداثة،والفاعل السياسي… ما هو إلا محاولة لاستنطاق هذا الواقع، وجعله يبوح بأسراره على لسان الكاتب، بما هو بوح يراهن على الفعل الثقافي الحقيقي، بنفحة حداثية تنويرية تواقة للحرية والكرامة الإنسانة ،على أساس متين قوامه الوفاء المبدئي لثوابت الوطن وقضايا الإنسانية الحقة.
التعليقات مغلقة.